مدد
عرف
عبدين يوماً بحكايته التى جرت على كل لسان ، ورث دكان العطارة الصغيرة عن
أبيه ، فيسرت له رزقاً موفورا ، و عاش مع أمه بعد زواج اخوته فى بيتهم
القائم أمام الزاوية و تميز بين شباب الحارة برشاقة القوام و وداعة
القسمات ، و دماثة الخلق و حسن العلاقات مع المعارف و الاصدقاء ، أما أول
ما اشتهر به من الطبائع و ألصقها بعقله و قلبه فهو إيمانه بالعرافين و
ولعه بزيارة أضرحة الأولياء ، و لم يكن يخطو خطوة حتى يستخبر أهل الذكر ،
و يستعطف القدر ،كان لعبدين جيران ، صاروا لطول الجيرة و حسن السيرة و
كأنهم من صميم الأهل ، و كانت لهم بنت تدعى شمائل ولدت بعد عبدين بعامين ،
فعرفها منذ كانا يلعبان فى الحارة أو تجمعهما زفة الفوانيس فى رمضان ، و
عرفت شمائل باشراق الوجه وحسن التكوين ، و جمال الأدب ، و أتقنت منذ فترة
شئون البيت ، و ما يلزم ربة البيت من ضرورات و كماليات ، و حتى الخط كانت
تفكه ، فتكتب اسمها كما كانت تكتب بسم الله الرحمن الرحيم .
و كان من
المتفق عليه و المعروف فى الحارة أن شمائل هى عروس عبدين ، و أن عبدين هو
عريس شمائل ، و فضلا عن ذلك فقد ربط الحب بينهما ، و مهدت البسمات لمعجزة
اليوم الموعود .
و لما اقترب الوقت المناسب تحرك طبع الفتى الدفين ، و
قال :كيف لا يفوتنى سؤال الشيخ لدى كل حركة عادية أو تافهة و لا أقصده فى
مصير حياتى ، و أخذ بعضه و ذهب الى شيخه العارف بالله الشنوانى بحجرته بأم
الغلام ، و طرح سؤاله و الآخر يقبض على يده و يشم عرقه ، ثم قال له الشيخ
: اذهب الآن الى حارتك و انتظر عند مدخلها ، و سلم أمرك لأول بنت تخرج
منها ، هى التى تحمل لك سعادتك المقسومة لك فى هذه الدنيا ، و لن تحظى
بخير الا فى الآخرة.
و رجع الى حارته و هو فى غاية من التوقع و التوتر
، و كان على شبه يقين من البنت التى سيراها ، و لكن أين تذهب شمائل فى
ساعة الغروب؟ و كان سرحان الأعمى أول من خرج من الحارة ، و تلاه غلام يسوق
الطوق و يغنى " على باب حارتنا حسن القهوجى" ، و اشتد قلق عبدين فقال فى
سره : " سلمت اليك أمرى يا رب العالمين " ، و اذا بصوت ينادى " عال
الجوافة " و ظهرت عربة يد فوقها هرم من الجوافة تدفعها حليمة ، ذهل ، لم
يحول عينيه عنها ، و ضحكت هى لما رأته و قالت مداعبة :
" واقف مثل غفير الدرك " ، و مضت نحو الميدان ، سار و هو يقول لنفسه : " يا رب لطفك و رحمتك "
أيعنى
الشيخ حقا حليمة بنت أم حليمة بياعة المخلل و ابنة المرحوم أحمد المكارى ؟
لا أحد فى حارتنا يجهل حليمة ، و هى أيضا تتعامل مع الجميع ، و لكنه كما
تقول أمها مفاخرة : "رجل بين الرجال " ، رغم رشاقة عودها و ثرائه . و كانت
مقبولة الوجه و جذابة أيضا رغم قوة نظرتها النافذة ، و خلا عبدين الى نفسه
يتفرغ للحيرة ، و يذهب مع خياله و يجىء بين شمائل و حليمة ، و شكا سره الى
صديقه الذهبى فقال له :
2 أى وجه للمقارنة بين شمائل و حليمة ! و انت
عرفت شمائل من خلال الجيرة و المعاملة و شهادة المعارف و الجيران ،أما
كلام الأولياء فليس منزلاً من السماء،
و لكن ايمان عبدين بقول الولى كان فوق أى مناقشة ،
و انتشرت رائحة الخبر رويدا رويدا ، فأثارت الدهشة و الضحك كما عثت الدموع
فى أعين كثيرة ، و حصل كلام و نزاع و صراع ، و لكن عبدين صمد لكل معارضة
بقوة ايمان لا يتزعزع ، و فى ساعة العصرية ، و قبل أن تتحرك حليمة بالعربة
ذهب عبدين الى حجرتها ، بربع الزاوى و طلب يدها من أمها ، و أخذ الخيال
يتحول الى حقيقة ، و سمع حمودة فى احدى الليالى يقول فى الغرزة على مسمع
من جميع المساطيل "المجنونة الجشعة ما أحبت أحداً سواى و لكن أعمتها صورة
دكان العطارة " .
و ذهبت العروس الى الحمام لتزيل عن جسدها الممشوق عرق
الأعوام و غبار الحارة و فلت شعرها المسكون ، فتبدت فى صورة لامعة و زفت
الى الفتى العطار فأقام معها فى شقة أما السيرجة ، و دعا ربه أن يهبه
السعادة التى ضحى فى سبيلها بقلبه و بكل اعتبار .
و كانت أياما صافية ،
و انغمس عبدين فى هواه الجديد ليغطى على أصداء حبه الأول و يدفن هواجسه و
فقدت الحكاية جدتها و دهشتها فلم يعد يتندر بها أحد ، و كان يمارس الحياة
و يلاحظها بانتباه حتى لا يفوته سر من أسرار السعادة ، و منذ بدأ المعاشرة
شعر بقوتها و صلابتها و بأنه يضعف أمام نظرتها النافذه . و الحق أنه توقع
أكثر مما كان و لكنه أقنع نفسه بأن السعادة الموعودة ليست هبة بسيطة أو
احساساً سهلا يجود بذاته منذ اللحظة الأولى ، انها حياة عميقة ذات سراديب
فلينتظر ، أما حليمة فلم تنتظر ، سرعان ما ضاقت بحياتها فى البيت ، و لم
تعد تخفى ضجرها ، و لا تمردها على سجنها ، و تحير عبدين أمام ظاهرة غير
مألوفة فى دنيا النساء . و لكنها قالت له بصراحة و جرأة :
- دعنى أعمل فقد خلقت لذلك .
و ذهل عبدين ، و أخرسه الذهول فاستطردت:
- لا يهمك كلام الناس ، متى سكتوا عنا ؟
و
كانت تصر و تصمد و كان ينفع و يتراجع ، و لم تكن تهمه الحوادث ، باعتبارها
مقدمات لسعادة لا مفر منها ، ألم يقل الشيخ الشنوانى كلمته ؟
و شهدت
الحارة حليمة و هى تشارك زوجها فى دكانه و رجع الاتصال بينها و بين
زبائنها القدامى ، و رجع حمودة أيضاً بين الغمز و اللمز ، و كثر اللغط و
الضوضاء حتى سأله صديقه الذهبى :
- أتعجبك هذه السعادة ؟
و لكن عبدين بدا صامداً مؤمنا فقال له :
- الصبر طيب و النصر قريب .
و
لكن حليمة اختفت فجاءة ، استولت على ما اعتبرته حقها من النقود المودعة فى
الدكان و اختفت ، و بعثت اليه رسولا يعتذر اليه و يطلب الطلاق ، كب كل شىء
على عبدين ، و قوض الزلزال صبره فبكى ، و لما رأى صديقه الذهبى مقبلا
تعانقا بحرارة ، و فى أثناء العناق استرد الكثير من روحه الضائعة ،
و قال لصديقة :
- سأطلقها فى الحال .
فلم يخف صديقه فرحه ، و نظر عبدين اليه طويلا فى فتره صمت ثم قال :
-انها ستجرب حظها بعيدا و لكنها ستعود تائبة !
و تنهد ثم قال لصديقه الذاهل :
- كلمة الشيخ الشنوانى لا تكذب ..
عرف
عبدين يوماً بحكايته التى جرت على كل لسان ، ورث دكان العطارة الصغيرة عن
أبيه ، فيسرت له رزقاً موفورا ، و عاش مع أمه بعد زواج اخوته فى بيتهم
القائم أمام الزاوية و تميز بين شباب الحارة برشاقة القوام و وداعة
القسمات ، و دماثة الخلق و حسن العلاقات مع المعارف و الاصدقاء ، أما أول
ما اشتهر به من الطبائع و ألصقها بعقله و قلبه فهو إيمانه بالعرافين و
ولعه بزيارة أضرحة الأولياء ، و لم يكن يخطو خطوة حتى يستخبر أهل الذكر ،
و يستعطف القدر ،كان لعبدين جيران ، صاروا لطول الجيرة و حسن السيرة و
كأنهم من صميم الأهل ، و كانت لهم بنت تدعى شمائل ولدت بعد عبدين بعامين ،
فعرفها منذ كانا يلعبان فى الحارة أو تجمعهما زفة الفوانيس فى رمضان ، و
عرفت شمائل باشراق الوجه وحسن التكوين ، و جمال الأدب ، و أتقنت منذ فترة
شئون البيت ، و ما يلزم ربة البيت من ضرورات و كماليات ، و حتى الخط كانت
تفكه ، فتكتب اسمها كما كانت تكتب بسم الله الرحمن الرحيم .
و كان من
المتفق عليه و المعروف فى الحارة أن شمائل هى عروس عبدين ، و أن عبدين هو
عريس شمائل ، و فضلا عن ذلك فقد ربط الحب بينهما ، و مهدت البسمات لمعجزة
اليوم الموعود .
و لما اقترب الوقت المناسب تحرك طبع الفتى الدفين ، و
قال :كيف لا يفوتنى سؤال الشيخ لدى كل حركة عادية أو تافهة و لا أقصده فى
مصير حياتى ، و أخذ بعضه و ذهب الى شيخه العارف بالله الشنوانى بحجرته بأم
الغلام ، و طرح سؤاله و الآخر يقبض على يده و يشم عرقه ، ثم قال له الشيخ
: اذهب الآن الى حارتك و انتظر عند مدخلها ، و سلم أمرك لأول بنت تخرج
منها ، هى التى تحمل لك سعادتك المقسومة لك فى هذه الدنيا ، و لن تحظى
بخير الا فى الآخرة.
و رجع الى حارته و هو فى غاية من التوقع و التوتر
، و كان على شبه يقين من البنت التى سيراها ، و لكن أين تذهب شمائل فى
ساعة الغروب؟ و كان سرحان الأعمى أول من خرج من الحارة ، و تلاه غلام يسوق
الطوق و يغنى " على باب حارتنا حسن القهوجى" ، و اشتد قلق عبدين فقال فى
سره : " سلمت اليك أمرى يا رب العالمين " ، و اذا بصوت ينادى " عال
الجوافة " و ظهرت عربة يد فوقها هرم من الجوافة تدفعها حليمة ، ذهل ، لم
يحول عينيه عنها ، و ضحكت هى لما رأته و قالت مداعبة :
" واقف مثل غفير الدرك " ، و مضت نحو الميدان ، سار و هو يقول لنفسه : " يا رب لطفك و رحمتك "
أيعنى
الشيخ حقا حليمة بنت أم حليمة بياعة المخلل و ابنة المرحوم أحمد المكارى ؟
لا أحد فى حارتنا يجهل حليمة ، و هى أيضا تتعامل مع الجميع ، و لكنه كما
تقول أمها مفاخرة : "رجل بين الرجال " ، رغم رشاقة عودها و ثرائه . و كانت
مقبولة الوجه و جذابة أيضا رغم قوة نظرتها النافذة ، و خلا عبدين الى نفسه
يتفرغ للحيرة ، و يذهب مع خياله و يجىء بين شمائل و حليمة ، و شكا سره الى
صديقه الذهبى فقال له :
2 أى وجه للمقارنة بين شمائل و حليمة ! و انت
عرفت شمائل من خلال الجيرة و المعاملة و شهادة المعارف و الجيران ،أما
كلام الأولياء فليس منزلاً من السماء،
و لكن ايمان عبدين بقول الولى كان فوق أى مناقشة ،
و انتشرت رائحة الخبر رويدا رويدا ، فأثارت الدهشة و الضحك كما عثت الدموع
فى أعين كثيرة ، و حصل كلام و نزاع و صراع ، و لكن عبدين صمد لكل معارضة
بقوة ايمان لا يتزعزع ، و فى ساعة العصرية ، و قبل أن تتحرك حليمة بالعربة
ذهب عبدين الى حجرتها ، بربع الزاوى و طلب يدها من أمها ، و أخذ الخيال
يتحول الى حقيقة ، و سمع حمودة فى احدى الليالى يقول فى الغرزة على مسمع
من جميع المساطيل "المجنونة الجشعة ما أحبت أحداً سواى و لكن أعمتها صورة
دكان العطارة " .
و ذهبت العروس الى الحمام لتزيل عن جسدها الممشوق عرق
الأعوام و غبار الحارة و فلت شعرها المسكون ، فتبدت فى صورة لامعة و زفت
الى الفتى العطار فأقام معها فى شقة أما السيرجة ، و دعا ربه أن يهبه
السعادة التى ضحى فى سبيلها بقلبه و بكل اعتبار .
و كانت أياما صافية ،
و انغمس عبدين فى هواه الجديد ليغطى على أصداء حبه الأول و يدفن هواجسه و
فقدت الحكاية جدتها و دهشتها فلم يعد يتندر بها أحد ، و كان يمارس الحياة
و يلاحظها بانتباه حتى لا يفوته سر من أسرار السعادة ، و منذ بدأ المعاشرة
شعر بقوتها و صلابتها و بأنه يضعف أمام نظرتها النافذه . و الحق أنه توقع
أكثر مما كان و لكنه أقنع نفسه بأن السعادة الموعودة ليست هبة بسيطة أو
احساساً سهلا يجود بذاته منذ اللحظة الأولى ، انها حياة عميقة ذات سراديب
فلينتظر ، أما حليمة فلم تنتظر ، سرعان ما ضاقت بحياتها فى البيت ، و لم
تعد تخفى ضجرها ، و لا تمردها على سجنها ، و تحير عبدين أمام ظاهرة غير
مألوفة فى دنيا النساء . و لكنها قالت له بصراحة و جرأة :
- دعنى أعمل فقد خلقت لذلك .
و ذهل عبدين ، و أخرسه الذهول فاستطردت:
- لا يهمك كلام الناس ، متى سكتوا عنا ؟
و
كانت تصر و تصمد و كان ينفع و يتراجع ، و لم تكن تهمه الحوادث ، باعتبارها
مقدمات لسعادة لا مفر منها ، ألم يقل الشيخ الشنوانى كلمته ؟
و شهدت
الحارة حليمة و هى تشارك زوجها فى دكانه و رجع الاتصال بينها و بين
زبائنها القدامى ، و رجع حمودة أيضاً بين الغمز و اللمز ، و كثر اللغط و
الضوضاء حتى سأله صديقه الذهبى :
- أتعجبك هذه السعادة ؟
و لكن عبدين بدا صامداً مؤمنا فقال له :
- الصبر طيب و النصر قريب .
و
لكن حليمة اختفت فجاءة ، استولت على ما اعتبرته حقها من النقود المودعة فى
الدكان و اختفت ، و بعثت اليه رسولا يعتذر اليه و يطلب الطلاق ، كب كل شىء
على عبدين ، و قوض الزلزال صبره فبكى ، و لما رأى صديقه الذهبى مقبلا
تعانقا بحرارة ، و فى أثناء العناق استرد الكثير من روحه الضائعة ،
و قال لصديقة :
- سأطلقها فى الحال .
فلم يخف صديقه فرحه ، و نظر عبدين اليه طويلا فى فتره صمت ثم قال :
-انها ستجرب حظها بعيدا و لكنها ستعود تائبة !
و تنهد ثم قال لصديقه الذاهل :
- كلمة الشيخ الشنوانى لا تكذب ..