العشق فى الظلام
عندما
يغلق باب المقهى لا يبقى ساهرا فوق أرض الحارة الا الخفير . لتفقد أبواب
الدكاكين ، و يذهب و يجيء ما بين الميدان و ممر القرافة سائرا فى ظلام
دامس متلمسا طريقه بغريزته المكتسبة من العمل و معلقا بندقيته بمنكبه و
بين حين و آخر يطلق نذيره الحلق الذى يشق الظلمه .
أطلق عليه منذ بدء
خدمته : "أبو الهول" بما يرمز له الاسم فى الذاكرة الشعبية من الجلال و
الرهبة ، الواقع أنه ذو طول مؤثر و عرض لا يتناسب مع ذلك الطول ، أما
شاربه فيقف عليه الصقر ، و أما رأسه فصغير و قلبه طيب لا يتوافق مع أغراض
وظيفته ، والحق أنه مضى يهزل و برق و تتجمع فى عينيه سحابة حزن ، و تساءلت
القلة التى تراه و هو يبدأ عمله الليلى عن السر . و تجرأ أحدهم فقال له :
1 لست على ما يرام يا خفير بندق .
فأجاب بغموض قائلا :
1 هى الدنيا يا معلم .
انه
يعاشر الظلام ، و لا يعرف من أهل الحارة الا الراجعين قبيل الفجر من
الحشاشين و السكيرين و الخباصين ، و لعله لا تصل الى مسمعيه فى صمت الليل
الا الأنات الشاكية ، و قيل انه سيهزل و يهزل حتى تعجز الأعين عن رؤيته .
و لكن الأنات الشاكية لم تكن الأصوات الوحيده التى تزحم أذنيه . هناك الصوت الذى يتسلل من نافذه بدروم البيت القائم أمام السبيل
أسمعه
أنين الحب و أنغامه . كل ليلة عقب عودة النجار من سهرته ، يترنح و يدندن
ثم يهبط الى مسكنه ، و بعد فتره وجيزة تتسلل الأنغام من منافذ النافذة ،
كل ما استطاع أ، يعرفه أن البدروم مسكن للنجار و امرأته ست بطه ، و لكنه
لم يرها أبدا . انها تقضى شئونها فى غرفتها . عرفها من صوتها آخر الليل ،
و لم يكن من أهل الحارة و لكنه عشق الصوت ، و هام به هياما حتى نبض فى
قلبه. و تردد فى أنفاسه . يسمعه ليله بعد أخرى و يتشربه ساعة بعد أخرى و
يخلق من ترنيماته و تهويماته صورة جامعة لمحاسن نساء الريف و المدن ،
يناجيه فى سهرته الطويلة و يستغيث به فى وحدته ، و تجسد له مرات فحاوره و
دعاه و قال له لا يعرف الألم الدفين الا خالقه و لا يغيظه شىء كما يغيظه
دندنة النجار و هو عائد مترنحا . و خطر له أنه لو أعياه السطول ليله فسقط
لحمله الى الداخل ليرى ست بطه .
و رن سوته فى القبر مرة و هو يغنى :
(( باسمع نغم الليل عشق الحبايب هدنى الحيل))
و أعجبه صدى صوته داخل القبو فأعاد الغناء و فاض به الحنين فتساءل :
- و ايش بعد الغناء يا بندق ؟؟
و جاء صوت من وراء باب الحصن الأثرى :
- ما بعد الغناء الا العمل ..
فارتعد متذكرا ما يقوله أهل الحارة عن سكان القبو . و لكنه تشجع ضاغطا بذراعه على بندقيته و سأل بلهجة ميرى :
2 من أنت ؟ ... كيف دخلت الحصن ؟
فأجاب بصوت باسم :
4 أنا شيطان يا خفير بندق ، و لولا الشيطان ما كان الانسان .
و
سرى الصوت فى كيانه بقوة فلم يشك أنه بحضرة شيطان حقيقى . حاول أن يتلو
سورة و لكن رأسه أفرغت من محفوظاتها القليلة ، و سأله مستسلما :
- ماذا تريد؟
- ماذا تريد أنت ؟؟
- ما أريد الا أداء واجبى .
- أنت كذاب .
و ترامت اليه دندنة النجار و هو راجع فخفق قلبة و قال الصوت من وراء الباب المغلق:
- أعطنى بندقيتك ...
لم
يذعن و لم يرفض و لكنه شعر بالبندقية تنزع من حول منكبة . و فجاءة دوت
طلقة نارية فمزقت مخالبها ستار الليل ، نام ثوان فحلم ثم صحا . و لما صحا
رأى شفافية الضياء الباكر تهبط فى مركبة سماوية و رأى لمة تحيط بجثة يتدفق
الدم من فيها و انكبت فوق الجثة امرأة و هى تصرخ و تبكى و تندب أبا العيال
و ندت عنه حركة فاتجهت اليه الابصار و أكثر من صوت سأل :
5 من قتل الرجل يا خفير بندق ؟؟
فتراجع حتى استند الى شرفة السبيل و هو يحدق فيهم
6 لابد أنك رأيت كل شىء .. فمن قتل الرجل ؟
فأجاب بذهول :
7 قتله الشيطان ...!
و كان يرى ست بطة لأول مرة ، و لآخر مرة .
عندما
يغلق باب المقهى لا يبقى ساهرا فوق أرض الحارة الا الخفير . لتفقد أبواب
الدكاكين ، و يذهب و يجيء ما بين الميدان و ممر القرافة سائرا فى ظلام
دامس متلمسا طريقه بغريزته المكتسبة من العمل و معلقا بندقيته بمنكبه و
بين حين و آخر يطلق نذيره الحلق الذى يشق الظلمه .
أطلق عليه منذ بدء
خدمته : "أبو الهول" بما يرمز له الاسم فى الذاكرة الشعبية من الجلال و
الرهبة ، الواقع أنه ذو طول مؤثر و عرض لا يتناسب مع ذلك الطول ، أما
شاربه فيقف عليه الصقر ، و أما رأسه فصغير و قلبه طيب لا يتوافق مع أغراض
وظيفته ، والحق أنه مضى يهزل و برق و تتجمع فى عينيه سحابة حزن ، و تساءلت
القلة التى تراه و هو يبدأ عمله الليلى عن السر . و تجرأ أحدهم فقال له :
1 لست على ما يرام يا خفير بندق .
فأجاب بغموض قائلا :
1 هى الدنيا يا معلم .
انه
يعاشر الظلام ، و لا يعرف من أهل الحارة الا الراجعين قبيل الفجر من
الحشاشين و السكيرين و الخباصين ، و لعله لا تصل الى مسمعيه فى صمت الليل
الا الأنات الشاكية ، و قيل انه سيهزل و يهزل حتى تعجز الأعين عن رؤيته .
و لكن الأنات الشاكية لم تكن الأصوات الوحيده التى تزحم أذنيه . هناك الصوت الذى يتسلل من نافذه بدروم البيت القائم أمام السبيل
أسمعه
أنين الحب و أنغامه . كل ليلة عقب عودة النجار من سهرته ، يترنح و يدندن
ثم يهبط الى مسكنه ، و بعد فتره وجيزة تتسلل الأنغام من منافذ النافذة ،
كل ما استطاع أ، يعرفه أن البدروم مسكن للنجار و امرأته ست بطه ، و لكنه
لم يرها أبدا . انها تقضى شئونها فى غرفتها . عرفها من صوتها آخر الليل ،
و لم يكن من أهل الحارة و لكنه عشق الصوت ، و هام به هياما حتى نبض فى
قلبه. و تردد فى أنفاسه . يسمعه ليله بعد أخرى و يتشربه ساعة بعد أخرى و
يخلق من ترنيماته و تهويماته صورة جامعة لمحاسن نساء الريف و المدن ،
يناجيه فى سهرته الطويلة و يستغيث به فى وحدته ، و تجسد له مرات فحاوره و
دعاه و قال له لا يعرف الألم الدفين الا خالقه و لا يغيظه شىء كما يغيظه
دندنة النجار و هو عائد مترنحا . و خطر له أنه لو أعياه السطول ليله فسقط
لحمله الى الداخل ليرى ست بطه .
و رن سوته فى القبر مرة و هو يغنى :
(( باسمع نغم الليل عشق الحبايب هدنى الحيل))
و أعجبه صدى صوته داخل القبو فأعاد الغناء و فاض به الحنين فتساءل :
- و ايش بعد الغناء يا بندق ؟؟
و جاء صوت من وراء باب الحصن الأثرى :
- ما بعد الغناء الا العمل ..
فارتعد متذكرا ما يقوله أهل الحارة عن سكان القبو . و لكنه تشجع ضاغطا بذراعه على بندقيته و سأل بلهجة ميرى :
2 من أنت ؟ ... كيف دخلت الحصن ؟
فأجاب بصوت باسم :
4 أنا شيطان يا خفير بندق ، و لولا الشيطان ما كان الانسان .
و
سرى الصوت فى كيانه بقوة فلم يشك أنه بحضرة شيطان حقيقى . حاول أن يتلو
سورة و لكن رأسه أفرغت من محفوظاتها القليلة ، و سأله مستسلما :
- ماذا تريد؟
- ماذا تريد أنت ؟؟
- ما أريد الا أداء واجبى .
- أنت كذاب .
و ترامت اليه دندنة النجار و هو راجع فخفق قلبة و قال الصوت من وراء الباب المغلق:
- أعطنى بندقيتك ...
لم
يذعن و لم يرفض و لكنه شعر بالبندقية تنزع من حول منكبة . و فجاءة دوت
طلقة نارية فمزقت مخالبها ستار الليل ، نام ثوان فحلم ثم صحا . و لما صحا
رأى شفافية الضياء الباكر تهبط فى مركبة سماوية و رأى لمة تحيط بجثة يتدفق
الدم من فيها و انكبت فوق الجثة امرأة و هى تصرخ و تبكى و تندب أبا العيال
و ندت عنه حركة فاتجهت اليه الابصار و أكثر من صوت سأل :
5 من قتل الرجل يا خفير بندق ؟؟
فتراجع حتى استند الى شرفة السبيل و هو يحدق فيهم
6 لابد أنك رأيت كل شىء .. فمن قتل الرجل ؟
فأجاب بذهول :
7 قتله الشيطان ...!
و كان يرى ست بطة لأول مرة ، و لآخر مرة .